هو مشهد غريب؛ نرى أحياناً في بعض المدن الكبرى سيلاً هائلاً من البشر الذين يتحركون حركة في اتجاه واحد،
ثم نلمح وسط الجموع رجلا هنا ورجلا هنا وآخر هناك يسيرون عكس التيار!
ترى أي عنت ومشقة تقابل مثل هؤلاء الرجال وهم يشقون طريقهم وسط هذه الجموع؟
قد ينظر بعضهم إليهم بأنهم خرجوا عن المألوف، قد يصدمهم هذا، وقد يدفعهم ذاك، لكن شيئاً لا يثنيهم عن مواصلة طريقهم، وكثرة المعاكسين لا تضعف عزائمهم إذ قد حدد كل واحد منهم هدفه وعرف طريقه.
وفي زماننا الذي كثرت فيه الفتن والخطوب، وعز الناصر والمعين، يجد المؤمن نفسه وحيدا فريدا في مواجهة سيل جارف من الشبهات والشهوات التي تتناوشه من كل جانب؛ لتوقف سيره إلى الله، أو تعرقله، أو تجرفه في طريقها إلى الهاوية، ويجد حاله مع كثير ممن حوله كحال أولئك الرجال تماماً، يسير عكس التيار، فهل تراه يكون أقل شأناً منهم فيتراجع وينساق مع الجموع؟
إن النفس بطبعها تأنس بالموافق وتركن إليه، ويزداد أنسها وتطمئن إن كان الموافق هو الأكثر والغالب، وهي بطبعها كذلك تتطلع إلى الشهوات وتميل إليها، والمؤمن إذ يسير عكس التيار يخالف أول ما يخالف نفسه التي بين جنبيه في كل ما تركن إليه وتأنس به، لكن مما يهون عليها الخطوب، ويؤنس وحشتها خلال الطريق، أن يذكرها ويعللها، كما تعلل الأم طفلها الرضيع؛ "إنما هي أيام قلائل" ثم "غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه !
ولئن كانت نفسه تستوحش من قلة الناصر والمعين فليذكرها
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}
{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ}
أو كانت تحن إلى كثرة تأوي إليها وتأنس بها فليذكرها
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}
{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}
،{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}
فمن أي قلة تستوحش وبأي كثرة تستأنس!
ولئن كان أهل الإسلام اليوم بين أهل الكفر قليل، فإن المتمسكين بدينهم في الأمة كذلك قليل من قليل، والمتمسكين بالدين الصافي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قليل من قليل من قليل؛ هم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذي يحيون ما أمات الناس من السنة.
فيا أيها السابح عكس التيار!
إن اعتصرت الآلام قلبك أو أحرق الجمر يدك، أو أصابك من السائرين عكسك ما أصابك، فإياك أن تتراجع أو تلقي الجمر!
فعما قليل يخف زحام المخالفين وتنطلق وحدك، ثم لن تلبث ويلبثوا إلا قليلاً، حتى يقف الجميع في موقف أشد زحاماً كلهم يطلب جهة واحدة، فإن كان ذا فقد حان وقت عرسك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال الحبيب صلى الله عليه وسلم :
" بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء"