لست أدري لمَ يقضي العباد أغلب أوقاتهم في أحاديث جانبية، محاولين وضع كل امرئ في خانة معينة، لا يرتاحون إلا وقد وضعوا كل من يعبر على محاذاة نميمتهم في خندق أو لون أو اتهام أو صفة..
هؤلاء لا لون بعيونهم وقلوبهم سوى الأبيض أو الأسود (وغالبا الأسود)، لا يرون الألوان الأخرى ولا يعترفون بقوس قزح.
فأنت إما أبيض أو أسود، لا يمكن أن تكون ورديا أو أصفرَ أو شديد الحمرة، بمعنى أنك يستحيل أن تكون متعددا، فيما الطبيعة الإنسانية مبنية أصلا على صفتي الاختلاف والتعدد والتغير.
لذلك أن تكون سياسيا معناه أنك كاذب ومحتال، لا يمكن أن تكون نزيها وفعالا..
وأن تكون رومانسيا فأنت حالم جبان، لا يمكن أن تكون محبا و«جنتلمان»..
وأن تكون متدينا فأنت خطير ومعقد، لا يمكن أن تكون منفتحا ميالا إلى الخير..
وأن تكون عاشقا لأشعار درويش ولأغاني كاظم، لا يسمح لك بحمل المصحف وحفظ سورة الكهف وصلاة الرواتب.
أبيض أو أسود، هكذا يصنف الناس بعضهم البعض، يمين أو يسار.. لا محل للوسط.
إما مع الثورة أو ضدها، أن تكون معها لكن بأسلوب مغاير.. لا يمكن
أن تحب الملك، وتنتقده.. لا يمكن
أن تحب الحياة وتزهد فيها.. لا يمكن
أن يكون شعرك منفوشا، وقلمك ثائرا وتكره التدخين ولا زلت تستحي.. لا يمكن.
أبيض أو أسود، كأننا عاجزون عن تقبل فكر الآخرين وخياراتهم وأسلوبهم في الحياة، كأننا عاجزون عن العيش خارج مدار النمطية وجعل كل شيء خاضعا لمنطقنا البدائي في النظر إلى الحياة والناس والسلوكيات والعيش المشترك، لذلك نربي أبناءنا بعقلية «الأبيض والأسود»..
فالذي يحب زوجته ولا يخونها، خاضع.. والذي يعمل بتفان ولا يسرق، غبي.. والتي تحترم زوجها وتخدم بيتها «حرمة»، والذي يقاطع الماركات العالمية، متخلف.. والذي يستمع إلى الراب عديم الذوق..
أحكام قيمة لا مرجعية لها ولا سند، وتوارث لمفاهيم بالية يجب أن يعاد فيها النظر كما يجب أن يعاد في هذه الرغبة المرضية التي تسكن الناس في تصنيف الآخر.. وليس النفس طبعا.
يمكن أن تكون أبيض في الصباح، برتقاليا في الظهر وأصفر في المساء وأحمر أو أزرق في الليل، ويمكن أن تظل أسود لأسبوع أو أبيض ليومين.. وهكذا..
تستمع إلى القرآن صباحا، وتقرأ الشعر مساء وتدندن بأغنية منسية لفيروز وأنت تسقي الغرس، تحب أن تتمشى وحيدا بداية الأسبوع وترغب في أن تشاهد فيلما رفقة صديق آخر الأسبوع وتعشق القاهرة شتاء وتكرهها صيفا.. وهكذا..
إلا المبادئ.. لا يمكن أن تخون من أجل مبدأ ولا يمكن أن تغير مثلك وقيمك كما تغير ألوانك.
هذا التصنيف المخيف هو الذي يجعل الكثيرين لا يفصحون عن شخصيتهم الحقيقية، يعيشون برعب دائم كي لا يخرجوا عن مدار اللون الأبيض إلى الأسود، فتجدهم مصطنعين لا لون لهم ولا حس ولا ملامح..
فلأساتذتنا لون يخصهم، ولسياسيينا ولفقهائنا ولوزرائنا ولأدبائنا ولمذيعينا ألوان لا تتغير.. وللبلد أيضا لونه الذي يصارع الكثيرين كي لا يتغير.
لا استثناء خارج اللونين.. إلا من اقتنع بأن التغيير يبدأ بالذات وبالصدق والتفرد، وبقوس قزح نرسمه جميعا كي يرفرف عاليا فوق الوطن.