غيتس، وبافيت، ضربا المثل للآخرين بالتنازل عن نصف ثروتيهما
التي تقدر باكثر من خمسين مليار دولار، للاعمال الخيرية، وقالا ان هذا
افضل بكثيرمن ترك هذه الثروة الهائلة للورثة، فالانسانية اهم بكثير من
مجموعة من الابناء المدللين، حسب غيتس الذي قال ان 'الثروة عليها مسؤوليات
ايضا'، وقد برهن ذلك عمليا من خلال تأسيس مؤسسة خيرية ادارها مع زوجته،
وحققت انجازات كبيرة، في تخفيف معاناة الفقراء، والمحرومين، ابرزها القضاء
على مرضي الملاريا، وشلل الاطفال، في العالم النامي.
نشعر بالحسرة، والخجل معا عندما نرى مليارديرات امريكيين يقدمون على مثل
هذه الخطوة، وآخرين من زملائهم ينضمون اليها بحماسة، ولا نرى من بين
الاسماء اسما عربيا واحدا. والاكثر من ذلك ان الملياردير الوحيد الذي ادار
ظهره لها، ورفض الانضمام اليها، وسخر منها، كان من اصل عربي، وهو
الملياردير كارلوس سليم المكسيكي الذي يعتبر اغنى رجل في العالم، وفقا
لتصنيف مجلة 'فوربس' الامريكية. فقد نقلت صحيفة 'لاجورنادا' اليومية
المكسيكية عنه قوله 'ان التبرع بنصف ثروته بهذه الطريقة سيكون امرا سخيفا'
مضيفا 'يجب اقراض هذه الاموال لتدشين مشروعات اجتماعية مهمة وتكليف اشخاص
معينين اكفاء بمسؤولية تنفيذها'.
لا يوجد احصاء دقيق بعدد المليارديرات العرب وحجم ثرواتهم، ولكن هناك اسماء
عديدة معروفة تبرز بين الحين والآخر بين سطور مجلات اجنبية متخصصة في هذا
الشأن، ناهيك عن المليونيرات وهم بعشرات الآلاف. ولكن ما هو دقيق ان معظم
هؤلاء يتصدرون عناوين الصحف واقسام الاجتماعات في المجلات المصقولة الملونة
بسبب طائراتهم الخاصة العملاقة ذات المراحيض او الصنابير الذهبية، او
اليخوت الفارهة الراسية في جنوب فرنسا، او جنوب اسبانيا، تتنافس فيما بينها
بطولها وعرضها وعدد غرفها.
وحتى اذا تبرع بعضهم ببضع عشرات او مئات الآلاف من الدولارات، فان هذه
التبرعات تقترن دائما بالتمنن، وامام رهط من الكاميرات التي تسجل هذا الحدث
الجلل، وتوزعه على عشرات المحطات التلفزيونية، والصحف التابعة للمتبرع،
والتي انشئت غالبا من اجل هذا الغرض الى جانب اسباب اخرى ليس هنا مجال
سردها.
* * *
الاثرياء العرب مطالبون اكثر من زملائهم الامريكان، والغربيين ـ بتخصيص جزء
من ثرواتهم لاعمال الخير، فمعظم هؤلاء كونوها، اي الثروات، من خلال اعمال
'غير شرعية'، او حصلوا عليها كعمولات لصفقات اسلحة لم تستخدم مطلقا في اي
حرب من حروب الامة ضد اعدائها، بل استخدم بعضها لاحتلال دول عربية، بعد
تدميرها.
الغالبية العظمى من المليارديرات العرب كونوا ثرواتهم الضخمة بسبب فساد
الانظمة التي هم جزء منها في الغالب، وغياب المحاسبة، والشفافية، وتغول
عمليات نهب المال العام، او غسيل الاموال، او كل هذه النماذج مجتمعة.
سمعنا عن عشرات الملايين جرى توظيفها في قنوات الخلاعة، او التجهيل وتخريب
عقول الاجيال القادمة، وتغريب اذواقها وتطلعاتها، ولم نسمع عن تأسيس او
بناء مؤسسات ثقافية علمية او انسانية محترمة الا ما ندر.
اكثر من نصف العالم العربي يعيش تحت خط الفقر، اي اقل من دولارين يوميا.
واذا ذهبنا الى دول عربية شقيقة مثل اليمن الذي يحتل مكانة بارزة على قائمة
الدول العشرين الاكثر فقرا في العالم نجد ان الجوع والمرض القاسم المشترك
للغالبية العظمى من المواطنين، وما يصل هذا البلد من اشقائه هو فتات
الفتات.
نعترف ان المسؤولية الاكبر تقع على عاتق الدول والحكومات، فهي الملزمة
بتحسين الظروف المعيشية لمواطنيها، وتوفير الحد الادنى من الخدمات الضرورية
من تعليم وطبابة وفرص عمل، ولكن اذا كانت هذه الدول فاسدة، محكومة من
انظمة ديكتاتورية قمعية، وتعتبر رفاهية المواطن وسلامته في ذيل اهتماماتها،
فان الاثرياء الذين كونوا ثرواتهم من اموال الشعب مطالبون بان يتحملوا
مسؤولياتهم وان يردوا بعض هذه الاموال اليه، من خلال اقامة مؤسسات خيرية
تعنى بشؤون المرضى والعجزة والمعاقين، وتوفير الحد الادنى من التعليم في
منطقة تزيد نسبة البطالة فيها عن ستين في المئة.
المليارديرات الاجانب الذين خصصوا نصف ثرواتهم لاعمال الخير، كونوا هذه
الثروات بطرق مشروعة ومن عرق جبينهم او ثمرة ابداعهم ودفعوا الضرائب لخزائن
بلادهم، في ظل نظام محاسبة صارم، وشفاف، ومع ذلك لم يتورعوا عن الالتزام
بمساعدة المحتاجين والضعفاء ليس في بلادهم فقط، وانما في جميع انحاء العالم
دون تفرقة او تمييز، بينما لا يدفع مليارديراتنا اي ضرائب لخزائن الدولة،
وكيف يدفعون وهم الدولة اساسا، والحلفاء الرئيسيون للحكم وورثته.
من حق هؤلاء ان يتركوا ثروة لابنائهم، ولكن هل من العدالة ان يبدأ هؤلاء
حياتهم، بل ان يفتحوا اعينهم على المليارات، ومئات الملايين من اقرانهم
جياع لا يجدون لقمة العيش؟ ثم هل هذا النسل المترف يستحق هذه المليارات، بل
هل يحسن استخدامها ويقدم صورة ايجابية عن عقيدته وامته؟
* * *
نتردد كثيرا بالتذكير بالقضايا الوطنية، وتكدير صباح هؤلاء ويومهم، خاصة
ونحن في نهاية موسم الاجازات الصيفية، لاننا نعرف مسبقا ان الاستجابة لدعم
القضايا الوطنية شبه معدومة، ولكننا لن نتردد في مطالبتهم، ومعظمهم يتقدم
بهم العمر بان يتذكر آخرته، وضمور غرائزه ويقدم على اعمال خير انسانية قبل
فوات الاوان.
لا مانع ان يتنافسوا فيما بينهم على جمع المليارات، وزيادة تضخم ارصدتهم في
البنوك، والتباهي فيما بينهم، فهذا حق مشروع، ولكن ليتهم يتنافسون ايضا في
عمل الخير، فهذه لذة لا تضاهيها اي لذة اخرى، فهل هناك متعة اجمل من رسم
ابتسامة على شفاه الاطفال، او اعادة الصحة الى عليل، او انتشال اسرة من
الفقر، او مساعدة ضحايا الفيضانات والزلازل في بلاد اسلامية مثل باكستان
وبنغلاديش تظاهرت دائما لنصرة قضايانا ولم نتظاهر مطلقا لنصرة قضاياها؟
لا نحسد هؤلاء على ملياراتهم او ملايينهم، ولا نبالغ اذا قلنا العكس تماما،
اي اننا نشفق عليهم وهم يعيشون في قصور او يخوت او طائرات خاصة معزولين عن
البشر، في حياة بلاستيكية بلا طعم او رائحة، محاطين بمجموعة من المنافقين
او مزوري الهوية من شدة عمليات التجميل والشد والتكبير والنفخ.
نكتب هذا الكلام بمناسبة حلول الشهر الفضيل، شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة
والبركة والتضحية، شهر تحسس معاناة الفقراء والمحرومين. لسنا وعاظا،
ولكننا نقرع ناقوسا لعلنا نوقظ بعض الضمائر النائمة، ونذكرها بالحد الادنى
من واجباتها. وكل عام وانتم بألف خير.